فى بيتنا مدمن .. الحلقة الثالثة ..
بقلم ا.د احمد الباسوسى
العوامل الشخصية المهيئة للادمان (فخاخ الادمان المنصوبة)
لسنا بصدد كتابة بحث في هذه المسألة، تناولنا للأمر من منظور اكلنيكي بحت متمثل في الواقع الخبراتي والمسارات العلاجية المتباينة. واذا كانت نتائج البحوث العلمية اشارت الى الدور القوي لعامل الوراثة في وراثة الادمان Genetic Factors خاصة ما يتعلق بالادمان على الكحوليات والافيونات، فاننا نسلم بهذا الأمر ونعتبر ان ادمان الوالدين أو احدهما يمثل عامل خطر Risk Factor يؤخذ في الاعتبار اذا كنا بصدد التقييم ووضع خطة العلاج.
لكن ليس
ضروريا التسليم بان ابن احد الوالدين أو كلاهما ممن لهم تاريخ مع الادمان لابد وان
يكون مدمنا، هناك اعتبارات أخرى يمكن فحصها تتمثل مدى هشاشة الشخصية وقدرتها على
الصمود والتعامل مع ضغوط الحياة القاسية.
هناك اشخاص نموذجيين يولدون بخصائص شخصية/نفسية خاصة جدا، حساسية ورقة بالغين مثلا، خجل فطري ملحوظ، ميل غريزي الى التجنب والانزواء، تجنب المشاكل أو الدخول في صراعات وصدامات مع آخرين...الخ كما ان هناك شخصيات أخرى تتسم بقدر كبير من الحركية والاجتماعية، والتوتر والقلق الداخليين، والعصبية الزائدة والاستجابات الاندفاعية أحيانا، وكذلك أفكار تشككية وعدائية تجاه الآخرين، مثل هذه الشخصيات ربما تكون مرشحة لو تعرضت لضغوط حياتية عظيمة الى تطوير اعراض نفسية خاصة مثل الافكار الوسواسية، مخاوف تتخذ صور مرضية نمطية مختلفة، ونوبات هلع متواترة معطلة أو مزعجة لتوافقه وتكيفه مع نفسه ومع الآخرين ممن حوله.
وقد يتطور الأمر الى الدخول في حالة مزعجة من الاكتئاب المفضي
الى حالة من اليأس والانسحاب وعدم الاكتراث والغضب، والاكتفاء بالسخرية من الواقع
والآخرين، وبالتالي تتأثر حياته الشخصية والاجتماعية والمهنية بصورة واضحة.
في هذا السياق نستطيع ان نقول ان الأرض باتت خصبة ومهيئة لتطوير أنواع من الاضطرابات النفسية الحقيقية، الشخص خلال هذه المشاكل والاضطرابات المزعجة يسعى بكل طاقته للهروب منها أو معالجتها ذاتيا Self Medication .
تعتبر الحلول الدوائية وسيلة فعالة لدى البعض منهم للخروج من الحالة الانقباضية المؤلمة واضطراب النوم، هذا الحل يهتدي اليه عن طريق الاصدقاء والنظراء سواء عن طريق الصدفة في جلسات الأنس والسمر حيث يتم تداول الحبوب والمواد المخدرة، أو من خلال نصيحة من أحدهم بأن لديه شيء هام قادر على تغيير المزاج ومساعدته على النوم المريح. نفس الأمر ينطبق على اولئك الأشخاص الذين يعانون من نوبات عاتية من التوتر، وموجات مستمرة من العصبية والغضب والسلوك الاندفاعي غير محتملة مصحوبة بفوران نشاط محموم من الأفكار السلبية والوسواسية تجاه نفسه والآخرين.
ان لجوء هؤلاء الأشخاص الى الحلول الدوائية للتهدئة وللخروج من نفق الانقباضات والمزاج السلبي من دون استشارة طبيب متخصص يتسبب في ادمان عدد كبير من الناس بهذه الطريقة، هذه الحبوب التي يتم تداولها بين الشباب خارج النطاق الشرعي تحتوي على خصاص ذات فعالية ادمانية، بمجرد ان يتعاطاها الشخص ويشعر بعدها بشيء من الراحة والتخفف من أعراضه ومشاكله، فقد يتحفز لتعاطي جرعات تالية لاحقا، والنتيجة ان جهازه العصبي يعتاد على تعاطي هذه الحبوب ولايمكن للشخص الاستغناء عنها لاحقا.
هذا النوع من
الادمان يمكن ان نطلق عليه ادمان الصدفة، أو ان هذا الشخص مدمن بالصدفة، وذلك لأنه
عثر بمحض الصدفة على بغيته في التخفف من أعراضه النفسية الاكتئابية وتوتراته عن
طريق تلك الحبوب التي جلبها لنفسه أو عن طريق اصدقائه خارج النظام الطبي، واستمر
في التعامل معها وتعاطيها حتى فقد أخيرا
السيطرة على تعاطيها وتسببت له في مشكلات صحية واجتماعية كبيرة، وفي
النهاية يكتشف انه أصبح مدمنا يستحق العلاج.
وهناك أشخاص على العكس، منفتحين اجتماعيا بدرجة عظيمة، يتمتعون بعلاقات متعددة مع الجنسين، مغامرون، شغوفين بالسهر والحفلات والسباقات والتعرف على المجهول والمثير، لديهم مستوى مرتفع من الاستثارة الداخلية Internal Arousal ، لا يهدأون قبل ان تهدأ استثارتهم الداخلية، هؤلاء مغامرون بطبعهم يجربون في كل شيء وأي شيء، لديهم فضول وحب استطلاع بصورة غير قابلة للسيطرة، وكذلك شغف بتجربة الجديد والمثير، لامانع لديهم من تجربة مركبات كيميائية للتهدئة أو لرفع مستوى الاستثارة، يعلمون العواقب، وانهم معرضين لخطر الادمان وفقدان السيطرة لكن رغم ذلك لديهم يقين في قدراتهم الذاتية على السيطرة والتحكم.
هؤلاء يمكن ان نطلق عليهم لقب "مدمن مع سبق الاصرار
والترصد"، وهؤلاء يشبهون الى حد كبير اولئك الذين اعتادوا الصدام مع المجتمع،
والخروج على قوانينه وقيمه واعرافه، واستخدام العنف في صدامهم مع الآخرين من أجل
الحصول أو الاستيلاء على مكاسب خاصة، وتصاحبهم توترات واضطرابات متعلقة بالشخصية
السيكوباثية، ويلجأون الى الحبوب المخدرة للتهدئة، ولمساعدتهم في تحمل آثار الصدام
والعنف مع الآخرين.
وما بين مدمن الصدفة الذي يبحث عن
مادة تخفف عن توتراته وانقباضاته في ارفف الصيدليات ويقوم بتجريب الكثير من
ادويتها (عن طريق نظرائه واجتهاداته الشخصية) حتى يستقر على المادة المطلوبة التي
تؤثر ايجابيا في تخفيف توتراته وانقباضاته ويقبل عليها بتواتر وشغف حتى يقع في فخ
ادمانها.
وبين المدمن مع سبق الاصرار والترصد الذي يستهدف المادة المخدرة أو المنشطة من أجل انجاز اغراض شخصية، تساعده على تحمل الألم أو تمنحه قدر أعظم من الجرأة والمخاطرة لانجاز مهمة صعبة وغالبا تكون ضد التقاليد والاعراف والقانون. ما بين هذا وذاك يوجد طيف واسع من الاشخاص يقعون في فخ الادمان بسلامة نية مطلقة مثل اولئك هم الخجولين الذين لايملكون الجرأة لرد يد ممتدة لهم بالسيجارة أو كأس الشراب في المناسبات الاجتماعية المفتوحة، أو اولئك الباحثين عن تجويد المتعة الجنسية ويتسلمون معلومات تتعلق بان حبوب الترامادول مثلا تزيد من النشاط والحيوية في تحسين قوة المعاشرة الجنسية، أو ان حبوب الانفرانيل تؤخر القذف لدى الرجال أثناء المعاشرة الجنسية وبالتالي يتحقق لهم المزيد من المتعة!.
وكذلك هناك الطالب الباحث عن اتساع وقت الاستذكار للحصول على اعلى المعدلات والتفوق فيلجأ الى الحبوب المنشطة مثل الكابتجون وغيرها لمساعدته في هذا الأمر، أيضا يلجأ الكثير من السائقين الذي يعملون على الشاحنات الكبيرة التي تعبر بين الاقاليم البعيدة في نقل البضائع، ويمضون ساعات أو ايام في الطريق منبطحين امام مقود الشاحنة، هؤلاء قد يلجأون الى الحبوب المنشطة لتساعدهم ان يظلوا منتنبهين ويقظين طوال مدة السياقة الطويلة.
هذا الأمر جعلني اطلق على هذا
النوع من الادمان (ادمان سائقي الشاحنات)
الادمان النبيل Noble addiction نظرا
لان الغرض من التعاطي في هذه الحالة تمثل في الدافع الى زيادة وقت العمل،
والأمر يتطلب الحفاظ على الحيوية الجسدية للاستمرار في العمل والانتاج.
كما ان في الثقافة المجتمعية تنبيهات كثيرة تتعلق بالدور الفاعل لمخدر الحشيش والمعتقدات الشائعة عنه بخصوص زيادة المتعة والترفيه والائتناس وتحسين القدرة الجنسية من دون حدوث اضرار شخصية أو صحية أو اجتماعية ملموسة أيضا. هذه المعتقدات الخاطئة روجت الى حد بعيد الى انتشار مخدر الحشيش على نطاق واسع بين المصريين، قبل ان تفندها نتائج البحوث العلمية عن مخدر الحشيش في مصر في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي بدأ ينشر تقاريره في هذا الصدد منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي افادت بنتائج عكسية تماما للمعتقدات الشائعة لدى العامة عن مخدر الحشيش، الأمر الذي انطبق عليه مقولة المفكر العظيم فرانسيس بيكون " من مآسي العلم ذبح الفروض الجميلة".
اشارت تلك البحوث ان لمخدر الحشيش تأثير سلبي على العلاقة الزوجية بعكس ما تم الترويج له من تاثيراته ايجابية، كذلك اشارت أيضا الى الخصائص الادمانية لمخدر الحشيش، وتأثيراته النفسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية على المتعاطين. ان الأمر برمته يمكن اعتباره نوع من سوء الفهم من جانب المتعاطي للمادة المخدرة أو الكحولية بخصوص توقعاته من تعاطيها.
فهو يثق كثيرا في قدرته على التحكم والسيطرة على سلوك التعاطي مقارنة بمن سبقوه وسمع حكاياتهم، أو ما تبقى في مخزن ذاكرته من حكايات عن الادمان وعواقبه من مشكلات وأحداث، كذلك يعتقد بشدة في ان هذا التعاطي أو تلك الجلسة أثناء التعاطي مجرد لحظة عابرة وسوف تذهب الى حالها. أخطاء معرفية بقع فيها الشخص تتعلق بتوقعاته عن المادة واعتقاداته حيالها وما الذي يتنبأه بخصوصها.
لكن تحركه دوافع وعوامل شخصية واحتياجات تؤثر من دون شك في ادراكات الشخص سواء نحو نفسه أو نحو المادة. أيضا تؤثر في مبلغ فهمه وتركيزه وبالتالي تتأثر توقعاته حيال مادة التعاطي ومجمل السياق الذي يعيش فيه.




التعبيراتالتعبيرات