الانتكاسة للادمان
ان الانتكاسة والعودة مجددا للتعاطي والادمان ربما يكون أمرا لاينبغي ان
يزعج المريض وذويه، ولا المعالجين الاختصاصيين في المجال. ببساطة يمكن ان نعتبر
الانتكاسة والعودة للتعاطي من جديد من متطلبات البرنامج العلاجي التأهلي طويل الأمد.
وقبل ان ننزعج من هذا الأمر لابد ان نسلم بعدد من الحقائق تممليها علينا خبرات
الممارسة الطويلة في مجال العلاج ومتابعة المرضى على مدى سنوات عديدة حتى بلوغ
التعافي.
اول هذه الحقائق ان نسلم
بازمانية مرض الادمان Chronicity وضرورة
مصاحبته وترويضه مثلما يحدث هذا الأمر مع مرض السكري، عن طريق المتابعات الدوائية
(اذا كانت مطلوبة) ورحلة البرنامج التأهيلي النفسي المطلوبة بشدة، وأذكر في هذا
الصدد ذلك الأمريكي الذي توقف عن معاقرة الخمر لمدة 36 عاما وتغيرت حياته تماما، وأتى للعمل
باعتباره خبير أو مرشد تعافي Drug counselor في أحد المراكز العلاجية المتخصصة في علاج
الادمان مهمته مساعدة المرضى على التعافي وتدريبهم ليصبحوا مرشدين تعافي، كان
يتحدث معنا في جلساتنا الخاصة عن الألم الذي ينتابه أحيانا مصحوبا بلهفة قوية Craving للعودة لشرب الكحول من جديد،
رغم توقف (لايزال) منذ 36 عاما متصلة.
الأمر الذي يضعنا في حالة من الحذر والترقب باستمرار.
ثاني هذه الحقائق ان العلاج
الناجع للادمان يتطلب انجاز تغيير شامل في نمط حياة الشخص المدمن يغاير تماما نمط
حياته السابقة Life style change بكامل
تفاصيلها والتي ترسخت في خلاياه العصبية وغيرت حتى في هرموناته، وتلك مسألة بالغة
الصعوبة على أي شخص في المجمل، فما بالك بشخص خرج حديثا من محنة التعاطي ويكابد
الآم سحب المخدر من جسده وعقله، وواقع مهدد بالعودة للتعاطي يشتمل على الكثير من
التفاصيل الدقيقة، ومضطر الى التعامل معه على أي حال، يصبح مثل بهلوان السيرك
المطلوب منه السير على حبل رفيع مشدود، مستخدما كامل قدرته على التركيز
والاتزان.
ثالث هذه الحقائق ان الشخص
الذي يطلب التوقف عن التعاطي والشفاء مطالب بالدخول في حالة من النضج النفسي Psychological Maturation تسهل له امكانية الاستمرار في
برنامج التأهيل رغم المكابدة والمشقة واغراءات العودة. وان بلوغ هذه الحالة من
النضج النفسي يتطلب منه الحفاظ على الوجهة الذهنية خاصته، والتركيز على كل ما هو
متوافق مع الواقع، وقامع لرغباته الشخصية الملحة الجانحة والمنفلتة، والتصالح مع
الذات الجديدة التي يجب ان تتسم بحالة فريدة من التسامح مع نفسها والآخرين، وقبول
الاختلاف والتناقض سواء داخل ذاته أو الآخرين، وبلوغ حالة من الهدوء الداخلي
والسلام النفسي تساعده على التعامل الجيد مع ضغوط الواقع المحيطة، وحل مشكلاته
باساليب جديدة تتسق مع التغير الحادث في شخصيته، وتلك مسألة بالغة الصعوبة
والتعقيد.
رابع هذه الحقائق ان علاج
الادمان ليس دوائيا، وان كان الدواء مطلوبا بشدة في مرحلة سحب المخدر من الجسد
وتلك مرحلة طبية أولية، أيضا من الممكن استخدام الدواء في حالات شديدة الخصوصية
عندما يكون الادمان مصاحبا لأحد اضطرابات الشخصية، في هذه الحالة يكون الدواء بقصد
معالجة الحالة النفسية لو تطلب الأمر ذلك، في حين يكون علاج الادمان عن طريق
البرنامج التأهيلي النفسي طويل المدى. ويترتب على هذه الحقيقة ضرورة اقتناع المريض
وذويه بأهمية العلاج النفسي طويل المدى للادمان، وأهمية الاستمرار في اتباع
البرامج والانشطة العلاجية المطلوبة، وأهمية الجدية في تنفيذها لمساعدتهم على
التوقف والتعافي، والصعوبة في هذا الجانب تتمثل في ذلك الارث الثقافي المجتمعي
والوعي المفقود الذي لايزال يحصر التعافي من الادمان داخل النظم الدوائية
التقليدية فقط، اما استسهالا من جانب، واما بسبب عدم الوعي بأهمية نظم العلاج
والتأهيل النفسي Psychotherapy and rehabilitation في التعامل
مع مشكلة أو مرض الادمان.
خامس هذه الحقائق يتصل
بالنقص الملحوظ في الكوادر البشرية المدربة على التعامل مع مرض الادمان والمدمنين
واسرهم Professionality الأمر الذي
يؤثر من دون شك على قيمة الخدمة الاحترافية المقدمة للمرضى ومتابعتهم على المدى
البعيد. ومن ثم قد لاندهش مما قد يثار سواء بين المرضى وذويهم أو حتى بين
الاختصاصيين في المجال ومجالات أخرى عن جدوى علاج الادمان!، وعن الانتكاسات
المتكررة للمرضى خاصة في اعقاب خروجهم من مصحات العلاج، وعن عدم وجود رؤية واضحة
محددة للتعامل مع مريض الادمان ومعالجته. ويتصل بذلك الأمر ما يتعلق بعدم الاتاحة
أو المبادرة باتاحة برامج تدريبية جادة للمختصين في المجال من الأكفاء محليا،
وكذلك ابتعاث المختصين الجادين الأكفاء الى الخارج وخاصة الدول التي سبقتنا كثيرا في المجال
للتدريب وتبادل الخبرات والعودة لتصميم البرامج والخطط العلاجية الفعالة التي
تجتذب المرضى اليها وتضعهم على الطريق الصحيح. ويتطلب هذا الأمر ما يمكن ان نطلق
عليه "صندوق خاص " لتدريب ورفع كفاءة جميع العاملين في المجال سواء
محليا أوخارج البلاد، وسوف يتطلب هذا الأمر ميزانية خاصة خارج الأطر التقليدية
المتاحة حاليا لتحقيق هذا الغرض.
سادس هذه الحقائق يتعلق
بالصورة الذهنية النمطية التقليدية التي ترسخت لدى الكثير من الاطباء النفسيين
وغير النفسيين عن دور الطبيب Physician اللامحدود في التعامل مع المرض والمريض، هذه
الصورة لاتزال للاسف مهيمنة على العقول رغم الثورة الهائلة التي حدثت في الفكر
ومناهج التعليم والتدريب ونشوء اختصاصات عظيمة أخرى تملك خبرات نوعية، وتقدم خدمات
مميزة للمريض وذويه وحل مشاكلهم على نحو يقتصد في الجهد والوقت والمال، ويتعامل مع
المعاناة باحترافية متميزة. لكن تظل عقيدة الطبيب "الجسدي" جامدة
وتستهدف لعب جميع الادوار بصورة رئيسية، مع الاستعانة بمساعدين في بعض الاحيان.
لسوء الحظ يجب ان نعترف ان ثقافتنا حتى الآن تنحاز، بل وتدعم العمل الفردي على
حساب العمل الجماعي، لما يحققه العمل الفردي من مكاسب تخص صاحبه فقط، بينما تتوزع
المكاسب على المشاركين في العمل الجماعي، وللاسف لاتزال مشاعر
"الذاتوية" مهيمنة على الوعي الجمعي لاسباب كثيرة يتعلق معظمها بمشاعر
عدم الطمأنينة، والخوف من المستقبل، والرغبة المفرطة في التميز والتفرد وتأكيد
الذات...الخ من العوامل النفسية الدافعة الى الانكفاء ومحاولات الاستحواذ الفردي.
ان فكرة العمل الجماعي تميز دائما المجتمعات المتطورة والتي بلغت درجة متميزة من
الحداثة والتقدم، وفي مجال علاج الادمان لايحتكر الطبيب الجسدي المرض والمريض، بل
هناك فريق علاجي كامل Team work يكون على
رأسه الطبيب، له دور محدد يلعبه، وييسر للآخرين لكي يلعبون ادوارهم. فكرة الفريق
العلاجي في علاج الادمان تنبني على أساس الفريق متعدد التخصصات Multidisciplinary Team الذي يتكون من الطبيب النفسي Psychiatrist والاخصائي النفسي الاكلينيكي Clinical psychologist والاخصائي الاجتماعي الطبي Social worker واخصائي التمريض Nursing staff ومرشد التعافي Drug counselor واخصائي الانشطة الرياضية،
وتتمدد التخصصات لتشمل موظفوا المطبخ والنظافة والادارة ..... الخ. لتشكل لاحقا ما
يمكن ان نسميه المجتمع العلاجي Therapeutic
community . لكل فرد من هؤلاء دور محدد
يؤديه وفقا لخطة علاجية واضحة المعالم مع المريض أو مع ذويه وصولا الى أقصى درجة
ممكنة في علاجه. وبقدر الهارمونية أو الانسجام الحاصل بين عمل هؤلاء الافراد
وادوارهم المحددة سلفا/ المتداخلة عمليا، وتوافقهم ورضاهم عما يفعلون، بقدر ما
يرتفع مستوى الخدمة المقدمة للمريض، ويتحقق له أكبر قدر من الاستفادة الممكنة من
الموقف أو المجتمع العلاجي، كذلك يتم الحصول على الطاقة القصوى الممكنة من كل فرد
من أفراد الفريق العلاجي، وكل ذلك بالتأكيد ينصب في نهاية الأمر في صالح المريض،
والعملية العلاجية، وكذلك المؤسسة العلاجية، ونجاحها في انجاز أهدافها العلاجية
والمجتمعية. هناك اجتماعات دورية يقودها الطبيب رئيس الفريق لمراجعة ما تحقق أو لم
يتحقق من أهداف أو برامج، والصعوبات الحالية، وطرح الحلول المناسبة، وتحفيز أعضاء
الفريق على استمرار بذل أقصى جهد لانجاز الاهداف المطلوبة. ان غياب فكرة الفريق
العلاجي يحرم المريض من الاستفادة من كامل طاقات أفراد الفريق العلاجي، ويحرم
المؤسسة من الاستفادة من كامل طاقة العاملين فيها، وينعكس هذا الأمر على العملية
العلاجية بالسلب، وعدم تحقيق اهدافها على النحو المطلوب.



التعبيراتالتعبيرات